السبت، 4 يناير 2014

ترويض الخيال في فراشات الروحاني





سواء كانت الرّواية محض انبثاقٍ عن مخيّلة الكاتب المنهمكة في دحض ضرورة وجوده تارة، و تكريس الإحتفاء بذلك تارة أخرى، أو كان أحد الموجودات الّتي تتناسل على نحو يسمح للإنسان باستعراض تفوقه الروحانيّ  بأن يبقى حلمًا و غايةً،أو كان مجرد فضاءٍ لرصد تجربة الحياة بكل ما فيها من تفاصيل تجعل الواقع حيًّا حدّ الإرباك، وسواء أكانت كل تلك المحاولات المضطربة لتفسير النّص السّريّ تلامس حقيقة ماهيته اللغز بدورها أم لا، فيبدو أن كلّ حمولة في الحياة هي حجّة للدخول أو للحديث عنه،حيث يبدو قلق الإنزلاق إلى تأريخ فترة زمنيّة في لحظة البوح  في أوجه ليصبح شرط الحكاية هو نبذ الأنا،تمامًا  كالموت.
 ومن غير المجدي  السعي وراء مفردة تفسّر صمت ما قبل الدخول إلى عوالم الرّواية، هذا الصّمت الذي يدركه أي قارئ نهم بحدسه الصاخب،وأن ثمّة أمرًا  ما سيحدث ليسمح لحواسه لاحقًا بمطاردة نفسها في اتجاه معاكس لتعليمات وظائفها الفيزيائية المستهلكة .

 و باتخاذ الواقع والتّجارب الشّخصيّة  كمادّة إبداعيّة للرواية، تبدو حتميّة ممارستها لغة و حياة  موازية للخلاص من بلادة مأساة الواقع،حيث تستشرس غريزة الكتابة في الدفاع عن سلطتها في الحياة متّخذة من الرّواية رؤيا تنافس  بطش الإدراك التقليديّ،ليس هذا سوى ملمح يجاور الاعتراف بكيمياء السّرد، تلك الّتي لا تحدث سوى بانفجار أو اشتعال وتخلّف وراءها حفرة نُساق إليها بكل هشاشتنا كالطرائد.
رواية فراشات الرّوحاني للأديب العربي العُماني محمود الرحبي الصادرة عن دار فضاءات ( عمّان- الأردن )، هي فخّ في تكتمها الأقصى عن جدواها أو تأويلها للإرتطام في قعر الحياة ومآسيها،كلعبة مثيرة تحدثُ بين أي إثنين، تنتهي بلقاء أزليّ ؟
يقدّم لنا الراوي نصائح وطرقًا علاجيّة تأديبيّة تبقى نظريات إلى أن تطبّق، ولا تبدو الإجابات فيها أكثر من محاولات ونصائح تفوق بفوضاها جدوى النصيحة نفسها،في حين أن الواقع العملي العلاجي مازال يقدّم نفسه في عالم الطب كفخّ تختاره الفرائس برفعة، و ليست محاولة الحديث عنه سوى بوصلة تحسم اتجاه انفصامنا اليوميّ بين ما نريد وما أصبحنا نحو جهته بعيدة المنال، وإن كانت الحياة تقاس بمقياس التجربة فيها و قربها و بعدها من عناصرها الحيويّة،الحزن،والفرح،الحب ،والكراهية،فتبدو الرّواية تقاس بتألق اِغتراب عن مفاهيم الحياة وعن الذّات.
إن "المثاليات" الّتي  لم تختبر نفسها أو قيمتها  في الحالات النفسيّة والعصبيّة كردّة فعل ضروريّة موازية و منافسة للحياة نفسها،المحك الذي تنصبه الرّواية لمريديها يتلخّص بنوبة اقتصاص من حدوث التناقضات الّتي تربك الإنسان في تعريف نفسه فيقسو على بدائيته تارة ليبدو أمام حضارته "مثاليّا"، ثم العكس، هذا التخبط الحيّ و المباشر يصطاده الرّحبي بمهارة و يحاوره في لحظة تدوم إلى الأبد، ناطقًا باسم الهامش الذي تفرده اللغة لعنف الروح حين تضجّ بالخسارات أمام عالم تحرّكه رغبة النّزعات الإنسانيّة.
ليس من السهل التحرك في هذه المساحة، مع أن الحياة تبدو لوهلة خارجة عن سيطرة البشر، إلا أنها تتفاقم فجأة في دخيلته بلؤم،مستميتة في الدفاع عن جمالها و قبحها داخل و خارج النّص،ولفرط ما تستهلك الضحيّة من شراسة في نبش المناطق المأهولة بالأحلام والأماني والقدرة على التّغيير في الذات،لا يعود ممكنًا العودة إلى الحياة ثانية ببراءة من لم يختبر شكلاً آخر لقوته كطاقة ماورائية مهددة لحزنه الدائم،حيث يبدو أن الرّواية كجدل تحدث بين الرّغبة في موت ما سواها والرّغبة  في اسقاطها تمامًا من ذاكرة الإنسان،قدرتها على تسجيل نقطة لصالحها في مواجهة عالم الأدب حين تجعل من مريديها عشّاقًا وأبطالًا في  مجتمعات صغيرة متعالية على وعيها البسيط في الحياة  و بذلك تغدو لحظة التّقمص مظاهرة ضد الأنا في الذي يراه الآخرون  على أنه حقائق مستقبليّة نهائية لا تقبل الطعن بكنهها وهذا التصادم الدائم مع اليقين والمقروء لا يتخذ من الرّواية فقط مسرحًا لتداعياته، لكنّه كذلك يخرج من قلب القارئ جميلًا إلى الحدّ الذي يغيّر مفهوم الأفعال السلبيّة فيستوجب التوجّس  إلى أفعال  إيجابيّة يعين القارئ على تقديم نفسه بسخاء للآخر ،وهكذا  يقاس في وعيه أو دون وعي.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق