الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

قراءة مرمر القاسم لبديوان هيروغليفيا للشاعر نوح العياصرة




الأدب الجميل ،ما يضيف لنا ونستفيد منه،ما ينمي ذوائقنا ويدغدغ شغاف عقولنا قبل قلوبنا،يستحق التّقدير،كان  بالإمكان قراءة ديوان الشاعر نوح العياصرة دفعة واحدة،إﻻ أنه لذيذ إلى الحد الذي جعلني أتوقف بعد كل نص إن لم أتوقف بعد كل شطر لإبقاء مذاق الحروف في فمي.

بعض نصوص الكاتب نشوة فزعة تنقلنا من طورِ الحيوانيّةِ الغريزيّةِ أللاإنسانية ، إلى طورِ الافتتانِ بالإنسانية،وإلى لوحات تصويريّة، فعجّت جدرانُ الديوان ،بالإثمِ والفزع وجمال التميّيز والإداراك والتقيّيم والنّقد للحالة الإجتماعية بسخرية عالية الّلذة،بلغةٍ بليغة راقيةٍ، متواريةٍ وبإشاراتٍ عابراتٍ لا تخدِشُ الحياءَ ولم يمارس دورَ القديس والخسيس الغليظ.

تناول الشاعر الأديب تفاصيل الحياة بحريّةٍ واستفاضةٍ أكبر ودونَ تورّعٍ أو تهيّبٍ، والحب دونَ أن يخوضَ في تفاصيل وصف العلاقة إلا بأسلوبٍ مرهفٍ دونما إسفافٍ، ودونما استعمالٍ لكلامٍ مؤذٍ للبصرِ والحواس.
اقتباس – منذ أول "كوغيه" امرأة
تمنحني الحُبَّ
بلا ثمن
وتلاقيني في الحلُم
تُقبّلني
وتمسّدُ بحرير يديها وجعًا
يتكدّسُ فوقَ خدودي
منذ ملايين الصفعات

نصوص كراقصين يرقصون متشابكي الأيدى ليشكلوا دائرة متراخيّة  ذات خطوط إيقاعيّة مستمرّة دون انكسار،تتمثل أقصى درجة من التأثير  بالحركة والصفاء، بل إنها تمثل معادلاً بصريًا مدهشًا لمعنى حب الحياة المفعمة  بالتناغم وبالأحاسيس الخالية من التوتّر مع اضافة مفردات عامية "محببة" أعطت للنص نكهة حنين قريبة من القلب..


من أول "كوغيه"مستعرضًا برشاقة العوامل الرئيسة الّتي أثرت في نشأته،طفولته،وصباه وشبابه،لإنتزاع الكلايشهات الإجتماعية ،وأهمها الخطوط  طولًا وعرضًا فوق جسده "للتأديب والتّهذيب"من حزام الوالد إلى عصا الأستاذ،والذين لم يراودهم أي إحساس بالذّنب.

اقتباس – منذ أول "كوغيه" صلعان
هل جرَّبتُم
حين يكون الفقرُ رصاصاً
والحاجةُ أمَّ الموتِ
وأخت الحزن
وصاحبةَ الناي
هل جرَّبتُم طعمَ "الزفتِ"
وطعم "البويا"
وتبوّأتُم مقعدكم من نار الدنيا
وطعامكمو فيها خبزٌ بالشاي


تكشف تجربة الشاعر أحيانًا عن جوانب من حياته كشظف العيش وجوع العربيّ إلى الحنين،إلى امرأة تنسيه بملاطفة عيصرة وجبل العتمات بأناقة أنثى،وتكشف أحياناً عن جوانب أخرى بما لم يقله ، وكثيرًا ما يكون الذي صمت عنه الشاعر أعمق مما قاله . لذا ربما اِعترى الديوان بعضُ الغموض،وهذا يعني أن لا تفسير واحدًا ونهائيًا للنّص، فالحداثة ضدّ الوضوح الذي لا يكشف عن جديد، لذا  يصعب علينا أحيانًا فهم الشعر الحديث أو الشاعر.

اقتباس – منذ أول "كوغيه" صلعان
هل غادرتم عبدونَ
إلى سقف السيل
ورأيتم إن كان الناسُ هناكَ
أناساً
أم جنَّاً يلتحفون الليل
ورفضتم طلبات النسوةِ
من "فيزونات"
وأعدتم أموال الوطن
إلى الأحياء الأموات
وتوقفتم عن خذلان بلاد الشمس
ينكأ الشاعر ،برأس قلمه وبقليل من العنف، كل الجروح: جرح فظاعات اليمين المتطرّف، جرح تدهور القيم الأخلاقية، جرح جبن الرجال، جرح صمت النساء ، جرح الزواج حين يكون بديلًا عن الحب في مجتمعاتنا، جرح الحب المزيف حين لا يكفي أن يكون مستحيلًا، جرح الفحش الماثل في آفات المجتمعات الحديثة، جرح المراهقين الباحثين عن لا شيء، جرح عبثية الحروب، جرح المحسوبية والتحيّز والتميّيز العرقيّ والطبقيّ، واللائحة أطول من أن تستوعبها هذه المقالة.

اقتباس – منذ أول "كوغيه"السور
سور الجيران كبيرٌ
أكبر من سور الصين
سور الجيران طويلٌ
أطول من حزن فلسطين

وجع فلسطين الممتدّ بين السطور،يدور في فلك الرّغبة العارمةِ راصدًا تجلّيات الوجع،رغبة ظامئة،لذّة  تتلوّى على وترِ الشّرهِ والافتتان بالوطن المسوّر مثل نعش ينتظر الرّدم في هبوط من علياء الحنين بالّلغة إلى أعلى درجات الألم.
يتجلّى في الديوان وزنُ الإبداع بتشكيلاتهِ كلمةً،ورسمًا،وصورةً، كلّ من تلك العناصر يقترض من الآخر ليهبنا شكلًا إبداعيًا موازيًا.

انتقد العياصرة ترسيخ المعتقدات الممتدة عبر أجيال وممارسات إجتماعيّة وأخلاقيّة ودومًا ،وكما نلحظ ،فإن حطاب تلك المعتقدات الإجتماعية هم الشباب المعبَأ فكريًّا وعقائديًّا لهذا النوع من الحروب الّتي يكون فيها الانتقام والتّبعيّة بحدود لا توصف من ممارسات شنعاء وهدّامة للشخصيّة العربية ،ويكون الهدف المنشود هو الوطنيّة والجنة حسب المعتقد الديني الإجتماعيّ ،لذا نرى الشخصيّة العربيّة تقوم على التّبعيّة ،من أجل الطاعة "العائليّة والعشائريّة"ومن أجل المقدس.


اتمنى ألا تطمر هذه الّلوحات الفنيّة بين الرّكام فهذا المؤلف ينبِئنا بشاعر،تنقصه الجرأة وتحرير قصيدته من الرّقابة الذّاتية ليكون مبدعًا حقيقيًّا مستقبلًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق