الخميس، 3 أكتوبر 2013

المرء بأصغريه"قراءة في رواية السيّد أصغر اكبر"

 المرء بأصغريه
"قراءة في رواية السيّد أصغر أكبر"


في رواية السيّد أصغر أكبر يجب علينا تحليل الصّور المألوفة كي ننفذ إلى"المجاز الأسطوري"أحيانًا وبشكل خاص إلى مخيّلة الروائي مرتضى ونفهم من ذلك كيف استطاع أن يترك للخيال تفلته من تحديدات علم النفس وحدود الكتابة في اندفاع ميثولوجي حيوي يروي لنا نظريته الأسطورية الخاصة،ثم يصعد بنا طبقات مركبة  من عالم أحلام اليقظة إلى عالم أحلام خارج الإدراك والوعي،مندفعًا مثل شعلة  الّلهب  إلى أعلى قمّة الخيال.

يظهر الكاتب براعة عنيفة وسرعة عجيبة في تقديم وتأخير سيرورة  الصّور،ففي بداية النص يحدثنا عن بدايات التأريخ،ثم ينتقل بنا إلى الحاضر القريب وفجأة دون سابق إنذار يقفز قفزة عجيبة إلى المستقبل المجهول واضعًا خطوط المسيرة الّتي تعودنا في البداية مع الإشارة إلى الأساطير وذلك كفرع  رئيس معنيّ بجميع الأحداث ودراسة وتفسير للرؤية النهائية الّتي توصل إليها.


 يقول في الصفحة 120 من الجزء "هؤلاء يعرفونها أيضًا"
"لا يلاحظ ذلك أحد،كما أنه نسي دميته ولم يسأل عنها،بعد أن علّمته الجدّة المتطيّرة صنع جنود من قماش،بزّاتهم مزركشة،وقبل بدء العام الدراسي الجديد يمل من جنوده الذين لا يمكنه تمييز جبهاتهم،فكلهم يتشابهون في فوضى الألوان وينكمشون في الماء. "

كما يتناول الكاتب أهمية النّسابة التاريخية منذ بداية الخلق وحتى يومنا هذا،حيث  تغيب عن الأشجار العائلية أسماء الإناث خجلًا من وجودها في العائلة ،ويتم إخفاء حالات مصاهرة العائلات الأخرى وفي ذلك إنكار لوحدة الانتماء،فالفرد يكتسب قيمته الأخلاقية  بتفاعله مع البيئة المحيطة،مستعرضًا المراحل التاريخية للمدينة التاريخية الدينية "النجف" بامتداد وتطور في حركة  متسلسلة.

السيّد أصغر أكبر يمنح تراثنا السّرديّ شكلًا آخر،ويعيد الروائي  للصور حيويتها ونشاطها النّفسيّ،بواسطة المجازات،إذ يفكّكها،ويحلّل التاريخ كمادة قابلة للذوبان،ثم يعيد تركيب الصّور بملل مثلما فعلن الشقيقات الثلاث بالحروف،كما لو أنها قطع بازيلpuzzel يدمجها مع التاريخ في وحدة  كاملة متكاملة،ليخلق معها حالة نفسية جديدة فعّالة عبر التّحولات الأشدّ دفعًا في منطقة"المجاز".وهذا العنصر الأكثر متعة في النص.
استخدم الكاتب منهجًا فكريًا جديدًا للكتابة الروائية،هو الأصعب وصولًا لليقين،تضمّن قوانين نفسية اختصت بالعقل وقدرة الفرد الروحانية ومهارته المكتسبة من التّجربة على تطهير النّفس من المؤسسة الدينية وفي ذلك طريق لتحرر النّفس من عوامل العبودية.

 فنتازيا الفكرة الروائية في هذه الرواية تفترض الكثير من التّناص الحكائي، فهي اذ تتجوهر في بنية متخيلة لقدسيّة المدينة  الّتي تخرج منها ثلاث أخوات يعشن في سلالات مثيولوجية وجنسية خلال وجودهن في منزل قريب من الضّريح وفي معاشرتهن لأهالي الأحياء، مثلما تتماهى بمستواها السردي مع البنية المتخيلة لأسطورة جلجامش، لكن الروائي لا يضعها في السياق الحكائي التّقليدي بقدر ما يضعها في سياق آخر، فيه الكثير من الغرائبية، لكنه مفتوح على استكناه الواقع من خلال تعدد مستويات السرد المفتوح على مستويات مقابلة للواقع، ومن خلال اقتراح مستوى قرائي يستغور من خلاله مرتضى تاريخه الشخصي، وعمره في الحروب، يومياته في الأمكنة ورسائله إلى المنفى، استعادته لمراحل حياته،عقدة الانتماء الدينية المضطربة في الأمكنة الأكثر اكتظاظا  بالمعتقد الديني المستسلم لرجل الدين ،وهنا يدخل دور فلسفة الاعتقاد والعادة اللّذان يؤسسان العِلم الذي يفرضه أُولو الأمر جوابًا عن الأسئلة الّتي في تطبيقها على الممارسات الاجتماعية وإرادة رجل الدين بُعدًا نفسيًا وهو التجربة والخيال،والبعد الاجتماعي وهما في النهاية المصالح  التربوية حيث يصبان في صالح إرادة رجل الدين بالدّرجة الأولى.ولى

السّر في الشقيقات الثلاث،من يتوصل إلى فكّ رموز تمائم الأسماء،سيدرك سِرَّ الرواية،فلكم سقطت في رعب النفاذ قبل الانتهاء ،مرعبة فكرة أن تنتهي الحروف قبل اكتمال الحكاية.

لوحة داخل لوحة،وعمل داخل عمل،وإن قدِّر لهذه الرواية أن تكون عملًا سينمائيًا لن تقل قيمة عن الأعمال الأدبية السينمائية العالمية ،وستسجّل مفارقة في عالم الرّواية العربية.

كان من الممكن ألا تختصر الرواية في مائتي صفحة،فبراعة الكاتب في صناعة الحشو  تظهر جليّة حين يبرز تفكيكًا للقوى بقطع الصلة مع ما هو مثالي ساذج والمثالي الأناني لوحدة التّكوين،في مجتمع ينتقـد نفسه , ويشاغب نفسـه , ويلاعـب نفسـه ,ويحارب نفسه لكي يصطاد نفسـه.
حشو ديني وتاريخي وسياسي وإنساني  بارع،كل فصل من فصول الرواية تناول فيه الكاتب حقبة زمنية تاريخية عظيمة من بداية القرن التسعين وحتى الاحتلال الأمريكي للعراق، مستعرضًا من خلالها كافة الأمور الحياتية،لنكتشف واقعية ومنطقية العلاقة الوطيدة بين الكاتب والمكان.
تتجمع الصور المتفرقة بالفعل،متنافرات شاذات مفككات ثم تنصهر في صورة رائعة،كالفسيفسائيات الأكثر غرابة تحمل إيماءات مستمرة كأنها عجلة عربة تجرها الأحصنة من عمق الوحل إلى الاعتراف.
وهنا يضعنا الروائي مرتضى في مواجهة المهمة الّتي نستشفها بكل صعوباتها وكلّ قيمتها،ليقول لنا ،لا يصنع  الوطن،والانتماء،والوحدة متفرّد ليست له خواص إنسانية ،إذ ليس من الممكن عمل شيء أفضل والوصول إلى وسيلة لاستيعاب التّرددات واحتواء الغموض والالتباسات منه،فهي وحدها القادرة على تحريرنا من العنصرية الجنسية والعنصرية الدينية.

مرة أخرى ومع بلاغة الراوي في السيّد أصغر أكبر ،
"الناس لا يعنيهم المستقبل بقدر انشغالهم بتصحيح الماضي.!"
وكأنه يحاول أن يرينا كيف تم تزوير التاريخ بطريقة أخرى.

 في الفصل الثالث ما قبل الأخير المعنون بـ"أخطاء مطبعية" ينقلنا الروائي بسرعة في جولة حول النتائج السلبية المترتبة عليها لاحقًا،مما يؤثث معايير جديدة  تجمع أمشاج مرحلة مفصلية لعلها الأشدّ قسوة في تاريخ العراق المعاصر.
فهل كان الدين يحتاج كل تلك الدماء ليستقيم أمره فينا ونتطّهر في رحابه ورحماتِهِ، وهل كانت العادات والتقاليد دينا نحتكم له حتى تراق على إثرها دماء ودموع وتُبنى ثقافات
وممالك،
وهل كانت الأنوثة خارجة عن المعتقد والعادة والتقليد حتى صارت كبشَ فداء لطهارة المجتمع بعيدًا عن شريكتها الذكورة
وهل كان العراق منذ بدء الخليقة منذوراً لاحتمالين لا ثالث لهما
الدماء والدموع .. الحروب والندوب،
 في العراق ماء أيضا وفي العراق أبجدية وفي العراق مازالت الأساطير خضراء لم تجفّ وها نحن نتلمّس بعض فيوضاتِها على ضفّةٍ ما وإن كانت بمسمى أصغر أكبر
 أصغر أكبر ،


"المرء بأصغريه قلبه ولسانه" هذا ما قاله سيّد من أوتي جوامع الكَلِم  والصّدق نبيّ الرحمة  صلى الله عليه وسلّم فأيّ أصغرٍ من أصغريك حفرت به تلك الألواح القديمة الحديثة التي مازلنا نمرّ عليها بإنساننا السويّ ولا نتّعظ من الندوب والخدوش الّتي استعمرت مخيلتنا وضمائرنا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق