السبت، 10 أغسطس 2013

رحم بلا رحمة.!




اللوحة من أعمال الفنان العربي العراقي محمد سعد



لم أتورّط يومًا ببطاقتي الشخصية،فحين تحتلّ الأوطان تصبح البطاقة الشخصية شاهدَ زور ساقطاً  لا يؤخذ بشهادته،فهل سقطتُ لتظلّ عروبتي الباهتة ، وفلسطينيّتي المنكوبة ، وعراقيّتي المنفيّة ، وقبيلتي "الأنصار" المتشظّي أبناؤها كقنبلة ألقتها يدُ الحياة لندرك من خلالها معنى التبدّد والتلاقي عبر فضاءات مفترضة هنا وهناك،فكم مرة  ذهبتُ فيها لإحضار الماء من البئر بشعر مشعّث  وحذاء بالٍ ، لم يلمع مرة في عيون المترفين،تلك تجعدات هشّمتها أنياب الاحتلال،وتلك إحدى حسناته القليلة،ما ليس في بطاقتي يا رفقاء هو عدد المفقودين من حياتي ، ما ليس في بطاقتي هي حياتي كلّها .
 فما الذي يدفعني للحياة ولماذا أحيا ؟
ثمّة برزخ ساقط بينهما لا يؤمن باللقيا، ألم يكن من البدهي أن نقول أيضا ولمن نحيا ،نكتب،هي فقط ممارسة للعقوق كي ندرك معنى الانتماء فأنا موّكلة بذاتي،لأنتقم من كبير الحمقى،أخبرتني جدّتي ذات سكرة ولم تكن تضع أية زينة، ولم تكرع كأسًا تلك الليلة، غابت الــ مِن بها ومازلت أبحث عنها.
حين تداهمنا النوبات الحرارية منتهكة كلّ الأعراف والقوانين، ككتل سائلة تشبه انفلات الحمم البركانية، تطفح من الشقوق على شكل سائل انصهر في أعماقنا فانبثق،لا نسأل عن العوائق الّتي تمنعنا من الانفجار،كتابة،ثمّة طقوس للموت لا يحتاج  معها المحكوم شنقًا هيأة ما  ليلقى حتفه،قيل إن للشياطين أرواحًا،أستحضرها وأهيئُ لها مقعدًا  متواضعًا وعلبة سجائر فاخرة،في هذه الأثناء تكون أناي قد أعدت ركوة بالهال ومبخرة،اقرأ على الورق تعويذة سومرية شبيهة بتلك الّتي ألقاها هاروت وماروت.هكذا هي الكتابة مُعدية،مُولّدة،تأكلنا ونُهضم، وما تبقى من لون الظّل يترحّم علينا.

لو ملكتُ أمرَ ما كنتُه ما تمنّيت أن أكون غيره.
قد تكون الأصوات هي الّتي تحتل اهتمامنا وذواكرنا أكثر من غيرها،ولمدة طويلة اعتقدتها بمثابة لغز رئيس للكون والّتي تفسّر طبيعة الظواهر  بخفة كبيرة،وهي العقبات الّتي لا حدّ لها نتيجة الانفجار.
في الثمانينيات ولم أعد أتذكر تاريخ ذلك اليوم تحديدًا،كنت أبيت في بيت عمي ،وبعد صلاة الظهر أُخرج أهل المخيم من بيوتهم،ثم طلب منهم الابتعاد عن البيوت إلى الجبال،قالوا لنا أنه سيتم هدم بيت أحد المتهمين بقتل الجندي "الإسرائيلي"، اختبأت في البيت ولم أخرج مع الناس بقيت مختبئة حتّى الدقائق الأخيرة ثم صعدت إلى السطح لأشهد الحدث العظيم،بدا المخيم مثل مقبرة كان هنا بشر،حتّى الطيور لم ألحظ أي وجود لها فو ق الأسطح وأسلاك الأعمدة الكهربائية،كان يبدو على الجند أنهم استشروا مذعورين فتنمّر القط بداخلهم وطالت مخالبه.وعلى الرغم من المغزى الإنساني،كان الهدوء أجمل ما في تلك اللحظة"نعم كان الهدوء جميلًا"وتحول المجاز إلى واقع شهدتُ عليه وحدي.
وأنا واقفة معلّقة بقيود لا تُرى سمعت غمغمة صوتيّة علامة احتراق الديناميت،تمزّق الصمت وتضاعفت الغمغمة ثم خرجت صرخة الثور الأخيرة ،علا البيت إلى السماء،قَبَّلَ الغيم ثم عاد واستقرت الرهبة الكاسحة،هبط أهل المخيم من الجبال و الصراخ و سال العويل أمامهم مثل الدماء القانية فملأ أذنيّ والأكف المرتعشة رعبًا.
الصخب،هو أحد النقاط الثابتة الّتي  أفكر  بزرع عبوة ناسفة فيه لأتخلص من الخوار.
أتتناسب مثل هذه الشعوذات،في أرض محتلة،حيث لا يمكن أن  يكبر الفرد أو يصغر،كلّ حال يهبنا عمرًا آخر لا علاقة له بالأعمار الرّقمية.
ممنوع منعًا قاطعًا الخروج بعد الساعة السابعة مساءً أثناء الاجتياح ومنع التجوال،وخصوصًا في المساءات الّتي تلي تصعيدات عسكرية ومظاهرات احتجاجية.
كلّما تأخرت ونادرًا ما أتأخر،حين لا أمتلك جرأة القول،تؤنّبني نفسي فأبقى مستغرقة في ذهول طفلة، ومنذ وعيت على اليونسكو ومازلت أنتظر العيد الذي لم يأتِ. أيعقل أن المشكلة في كوني أشعر دومًا أنني طفلة.!
لقد تعلّمنا الإيمان بقوة الكلمة الصادقة،ومن خلالها ندعو بإصرار إلى توكيد عدم الاعتراف بقيود وهمية،ونعترف بقيد الفكرة حتّى نحررها.
إن الكتابة والرسم نوعان من الرفض والاعتراض،يجد فيهما الكاتب  قسوة وتعذيبًا لنفسه يستعذبه،يحلم ويتمنى أن يلغي فداحة التناقض ووقاحة الوصاية،لكنه لا يسعى في كتاباته للتشابه،فإذا نفيت الرّحمة بطلت الحاجة إلى التعذيب،وإن أفجر الناس أطغاهم،والكاتب أفسقهم،فليس هنالك نص يوقّع بكامل الاستقامة أو كامل النقص،حين أتوقف عن الحلم والتّمني قد أشعر بالخواء.
لعل الوضعية الخاصة جعلتنا نطرح الأسئلة  بطريقة أخرى كنوع من العقوبة الّتي ستلحق بي،إن كانت ما تزال فيّ بقية عقل،لماذا لم نُسأل عن نسبة السكينة في حياتنا!
فمن غير المعقول أن نطلب ممن خلق على قلق حصر أكثر الأشياء زخمًا في حياته. حين ينتهي عمر الاحتلال سأخبركم كم كانت نسبة الطمأنينة في حياتي.
الكتابة نوع من الاحتجاج على الواقع ،ولا أحد يستطيع أن يتمسك بتعاليمه، وواقع المرأة العربية أشد قسوة من واقع الرجل فيه،لكن المرأة في ممارسة احتجاجها أكثر تمسكًا بآداب السلوك الاجتماعي  والقارئ"المحافظ" يبالغ في امتداح هذه الالتزامات في حين قد يكون من أكثر الناس فسقًا  في سلوكه،وزهو المرأة بما لديها من معتقدات إنما هو زهو لا يمكن التزامه لأنه دون تأثير عليها.
ولربما لأنني لا اقرأ الأدب من حيث جنس الكاتب لا أجد فوارق بين الأدب الرجالي وبين النسائي سوى في قراءة نفسية تحليلية للنص.
إننا نلهج بكل اللغات الممكنة لنعبّر عن معنى واحد"المحبة"لكننا لم نعثر حتّى الآن عن لغة تواصل نتّفق من خلالها على فكرة موحّدة.

أمة عربية بمدائنها وجيوشها وحضارتها كيف تكوّرت في رّحم بلا رحمة.!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق